القائمة الرئيسية

الصفحات

آخر الأخبار

هل باتت الولايات المتحدة على طريق التردي الاقتصادي؟




ما سوف تراه مكتوبا اما عينك الآن قد يكون مفاجئا لكم: لو كانت بريطانيا ولاية أمريكية, لكانت ثاني أفقر ولاية بين الولايات المتحدة.

هذا الأمر يثير الدهشة حقا نظرًا إلى التاريخ الاقتصادي لهذا البلد- فالمملكة المتحدة كانت أول دولة تدخل عصر التصنيع, وكانت لمدة قرن تقريبا القوة الاقتصادية العالمية الأعظم دون منازع, لكنها تخلفت عن الركب منذ ذلك الوقت.


إذاً, ما هي الدول التي تملك النظم الاقتصادية الأكثر إنتاجية؟ إذا استثنينا الدول الثرية بالموارد الطبيعية وخير مثال على ذلك النرويج, وقطر, والدول الأخرى ذات المؤشرات الاقتصادية المبالغ فيها بفضل كونها ملاذات ضريبية ضخمة (أيرلندا, لوكسمبورج), فسنجد أن الدول الأكثر قوة من الناحية الاقتصادية بالترتيب هي: بلجيكا, والدنمارك, والولايات المتحدة, وهولندا, وفرنسا, فضلا عن ألمانيا.


لكن هناك أسباب كثيرة تجعلنا نعتقد أن الولايات المتحدة على وشك أن يحدث لها نفس مصير المملكة المتحدة- أي أن تتفوق وتعلوا عليها دول تُحكم بطريقة أفضل منها.


ولعلك تدرك أن الترتيب الذي ذكرنها وُضِع بناءً على الناتج المحلي الإجمالي لكل ساعة عمل, وفقا لاخر احصاءات من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وكما يشرح توماس بيكتي, تعتبر هذه أفضل طريقة لحساب الإنتاجية العامة, لأنها تتجاوز الفوارق الناجمة عن العمل لساعات أطول (وهو ما يفسر بقاء نصيب الفرد الأمريكي من الناتج القومي مرتفعا)

إذا ما الذي حدث؟ في الحقيقة, إن تراجع مستوى المملكة المتحدة قد لا يبدو مستغربا كما يبدو للوهلة الأولى. ووفقا لما يقوله إيريك هوبسباوم في سرده لتاريخ الثورة الصناعية, فإن إنجلترا لم تكن مركزا تعليميا وتكنولوجيا قويا عندما ازدهر اقتصادها في مطلع القرن الثامن عشر. وبدلا من ذلك, واجهت المملكة المتحدة صعوبات بسبب تعقيد مؤسساتها السياسية والاقتصادية, كما أن توفر المواد الأولية المتمثلة في القطن سمح لها بتحقيق نمو اقتصادي سريع مقارنة بالدول الأخرى.




لعلك تذكر أن الجيل الأول من صناعة النسيج لم يتطلب سوى إمكانات علمية وهندسية غير معقدة وبسيطة, وبهذا سبقت المملكة المتحدة في بداية الأمر الدول الاكثر والافضل تعليما.

ولكن مع تقدم اليات التصنيع والتطور, باتت تلك الصناعة أكثر تعقيدا من الناحية الورقية, وبالتالي باتت تتطلب عمالا, ومهندسين, وعلماء أفضل تدريبا, وسياسات عامة أفضل. وبناء على ما سبق, بدأت المملكة المتحدة تفقد شئ من ريادتها لصالح دول في القارة الأوربية. خسرت بريطانيا موقعها في النهاية لصالح الولايات المتحدة, التي كانت لها بداية متأخرة قليلا, والتي تمتعت بمستوى أرقى من التعليم والعلم, فضلا عن امتلاكها لعدد كبير من السكان وقارة تزخر بالموارد الطبيعية.




علاوة على ذلك, فإن الدول الصناعية عادة ما ينتهي بها المطاف إلى رفع أجور العاملين, لذلك غالبا ما تضطر هذه الدول لإزالة القاعدة الصناعية لديها, ونقلها إلى بلدان أرخص. كما تتحول الشركات الناجحة أيضا إلى هدف مغرٍ للطفيليات المالية, التي تدمّر المؤسسات المنتجة من أجل تحقيق مكسب سريع.



لقد أصابت تلك الأمراض الرأسمالية كلا من المملكة المتحدة والولايات المتحدة, ولكن الأخيرة تعاملت معها بصورة أفضل. فبعد العصر الذهبي البائس وأزمة الكساد العظيم التي سببها الإفراط المالي, جاء مشروع "الصفقة الجديدة" ليؤسس إطارا أساسيا للقوانين المنظمة, والسياسة الصناعية, والأسواق المفتوحة التي ساعدت كثيرا في تحقيق نسبة نمو هي الأسرع في تاريخ الولايات المتحدة- كما حمت "الصفقة الجديدة" الأمة من التعهيد (أي الاستعانة بمصادر خارجية لأداء خدمة ما) ومن مصاصي الدماء في وول ستريت. كما لم تتأثر الولايات المتحدة إلا قليلا بالحربين العالميتين, مقارنة مع الخراب الذي حلّ بأوربا).



نتيجة لذلك, وبنهاية الحرب العالمية الثانية, باتت الولايات المتحدة البلد الأكثر إنتاجية بشكل مطلق, تخطت بذلك معظم دول أوربا. لكن الدول الأوربية الكبرى لحقت سريعًا بالولايات المتحدة في فترة ما بعد الحرب, حتى تساوت معها في عام 1980 تقريبا. الأكثر من ذلك أن الدول الأوربية استغلت ذلك النمو السريع لتأسيس دول رفاه في غاية السخاء, حيث لم تكتف هذه الدول بالاستمتاع بثمار هذا النمو على نطاق واسع, بل أنها دعمت وساندت مواطنيها على الحصول على فرص عمل وحافظت على نمو اقتصادها. لقد أدى ثراء تلك الدول في اعطاء إجازات مدفوعة الأجر وإعانات رعاية الأطفال إلى بقاء الأمهات والآباء في وظائفهم, كما ساندت سياسات سوق العمل النشطة ( مثل إعادة التدريب, والتنسيب الوظيفي, وإعانات التوظيف, إلخ .. ) على ربط العاطلين بسوق العمل.




في المقابل, كانت دولة الرفاه الأمريكية دوما في حالة فوضوية وبائسة مقارنة بمثيلاتها في ألمانيا, وفرنسا, ودول الشمال الأوربي بوجه خاص. فالدنمارك تمنح إجازة والدية مدفوعة الأجر مدتها 55 أسبوعا, وتنفق 2,2 بالمائة من ناتجها الوطني على سياسات سوق العمل (أو ما يزيد على 400 مليار دولار أمريكي), مقارنة مع الولايات المتحدة التي لا تمنح أي إجازة والدية, والتي لا تنفق سوى 0,1 بالمائة من دخلها الوطني. وكنتيجة مباشرة لذلك, بات معدل توظيف الشباب في الدنمارك أعلى بخمس نقاط, وأعلى بثمان نقاط وسط النساء, بالمقارنة مع الولايات المتحدة. ولكن ليس هذا فحسب, فالدنمارك تتفوق على الولايات المتحدة في عدد براءات الاختراع لكل مواطن, وفي مساهمة رأس المال الاستثماري في الناتج المحلي الإجمالي, وفي نسبة الباحثين وسط الموظفين.




  كما علينا أن نتذكر أن اقتصادها أكثر إنتاجية في الواقع من أمريكا. إن نموذج الدنمارك يصبح أكثر إبهارا عندما ينظر المرء إلى طقسها البارد وقربها من البركان الاقتصادي الثائر المتمثل في منطقة اليورو.


لكن بدلا من تقليص فجوة الرفاهية بيننا وبين الدنمارك, عملنا على توسيعها في معظم الوقت. لقد بتنا نعاني من فقر متزايد, وأصبحت جميع الخدمات المقدمة للفقراء بائسة بصورة عامة. كما أن سياسة الرفاهية الأمريكية الشهيرة هي عبارة عن تدابير قسرية بشعة هدفها إجبار الفقراء على العمل, من دون بذل جهد يذكر لضمان حصول الناس على تلك الوظائف, أو تمتع الناس بالمؤهلات التي تؤهلهم للحصول عليها, وهو ما يمثل فشلا رهيبًا. لا تهتم الحكومة الأمريكية بشكل كبير بمحاولة منع فقدان العمال المنتجين, أو انسحاب الأمهات انسحاب تام من سوق العمل. كما يسمح نظامنا الصحي بصورة روتينية بأن يُصاب العاملون المنتجون بالكثير من الامراض أو حتى يموتوا من دون سبب ( رغم أن نظام الرعاية الصحية المستجد المعروف بأوباما كير كان خطوة متواضعة في الطريق الصحيح).






وعلاوة على ذلك, أطلقنا العنان لمصاصي الدماء في وول ستريت منذ عام 1980- الذين لم يكتفوا باستنزاف بعض الشركات ونقل أعمال الشركات الأخرى لخارج البلاد, بل حوّلوا قطاعات بأكملها إلى صناعات احتكارية كبيرة للغاية تسعى بنشاط لتقويض الابتكار وقتل الوظائف. لقد اصبح قطاع الاتصالات الأمريكي, وذلك على سبيل المثال لا الحصر, متخلفا عن نظيره في أوربا, رغم أن هذه التكنولوجيا تحديدا تم تنميتها هنا.


وهذا تمامًا ما حدث مع المملكة المتحدة وصناعة النسيج. لقد باتت الولايات المتحدة تعتمد على نجاحاتها في السابق طيلة عقود من الزمان حتى الآن. لكن عدم قدرتها على تبنّي سياسة واعظة حكيمة, سيعمل على تذييل اقتصادنا وجعله يقبع في المؤخرة. 
         

هل اعجبك الموضوع :